إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 4 يناير 2017

ورثته من أبرارها ... المطران المقاوم كبوجي

بلال نور الدين - بيروت برس - 

ولد المطران هيلاريون كابوجي في 2 آذار 1922 في حلب، وأصبح في عام 1965 مطرانًا لكنيسة الروم الكاثوليك في القدس. اعتقل عام 1974 اثناء محاولة تهريب السلاح للمقاومة، وحكمت سلطات الاحتلال عليه بالسجن لمدة 12 عامًا، لكن وبواسطة من الفاتيكان أفرج عنه بعد 4 سنوات وتمّ نفيه الى روما وامضى حياته هناك حتى وافته المنية عن عمر يناهز الـ94 عامًا. كرّمته كل من سوريا والكويت والسودان وليبيا والعراق، كما حملت عدة طوابع بريدية في عدة بلدان عربية صوره. ويذكر أنّ المطران كابوجي كان عام 2009 على متن أسطول الحرية الذي انطلق الى غزة بالمؤن والأمتعة بعد حصارها، فصادرتها سلطات الاحتلال وطرد من كان فيها الى لبنان. 
خرج المطران كابوجي من فلسطين مقاومًا منفيًا لم يكن بحوزته وقتها غير صليبه وحفنةٍ من تراب فلسطين، وقلبٍ يملؤه الوجع وأملٌ بالعودة، يورق ويخضر ويزهر كلما سمع باسمها او رأى رسمها او لمح حجرًا متطايرًا كرف الحمام في سمائها.
خرج منها مقاومًا منفيًا افتقدته قنطرةٌ في بيته وإنجيلٌ من حلب وصله هدية بعيد البشارة او الميلاد او الفصح، وطاولةٌ مستديرةٌ فوق بساطٍ احمر مزكرش مطعّم بالاسود، كان يأكل عليها ويركن فيها مسبحته، لكن طيفه لمح بعد ذلك على مائدة العشاء الأخير بين الحواريين وفي ايقونات عدة خلف المسيح، أو سابحًا حوله بهالة من نور ومسك وزيت، حتى أنّ مريم العذراء فاضت دمعتها وبسمتها فرحًا وحزنًا على ناصر ابنها وصوته عبر الأزمان، على حامل إنجليه وحرفه.
خرج من فلسطين المطران مقاومًا منفيًا، يعتز ويفتخر بعروبته ويصدح بملء صوته في الغربة قائلًا: "عندما أسأل عن أصلي وفصلي،عن حسبي ونسبي، بفخار باعتزاز مرفوع الراس أجيب انا عربي..."
ها هو يشق عشب الحقول بجسده النحيل واقدامه العارية مخلفًا وراءه دربًا من الآلام والبنفسج في آن. يعانق بجفنيه سماء الغروب الخمري قبل سفرها وراء هضاب القدس وكنائسها ومساجدها. يتدثر بفيئ غصون الرمان، ويتملى فيض عينه من قمر الناصرة ووجع المنكسرين المشردين العراة في ازقة غزة وطولكرم ورام الله، ويتغذى جوفه من رائحة الدقيق المطحون والخبز الملوّح بنار الشقاء والجهد. فينكر رائحة الرطوبة والعتم والاحتكار المنبعثة من الكنيست وأقبيته، ويقف في محكمتهم تمامًا كما فعل معلمه الفدائي الأول في فلسطين حين زأر بصوته وسوطه في المعابد، فيقول: "لن أوجه كلامي اليكم، بل إلى معلمي يسوع المسيح الذي يبكي على ما حل بالقدس، مهد المسيحية والإسلام.
هذه المدينة المقدسة التي يدنسها الغزاة، ويهتكون حرماتها.اني أقدس السلام، واؤمن بالمحبة، وعلى خطاك، يا معلم، أقدس أرضنا، هذه الأرض التي نحب، والتي تدعى فلسطين. يا معلمي، انت النور إلى العالم، وهم الظلام. انت المحبة، وهم الظلم."
هكذا خرج المطران كابوجي من فلسطين.. خرج مقاومًا منفيًا وما عاد اليها يومًا مستبدلًا اوراق يوحنا ولوقا ومرقس بأوراق اتفاقية سلام بالية مزنّرة بالذل، كغيره ممن سافر لأجلها وعاد لغيرها.
وفي يومه الاخير، حنّته فلسطين من جمالها بعد أن عمّدته بمائها الذي انسكب مرارًا على جسد مخلصها المسيح. دعته الى أحضانها، حدته بكلامات سريانية وعربية فأغمض عينه على صورتها وغفا بعدها الى الأبد. قبلته ورثته من أبرارها. فبين البرّ والعقوق موقفٌ ومصافحةٌ وإمضاءٌ وحنجرةٌ وعظةٌ لا تعرف ان تنام او تميل او أن تستبدل الخليل فلسطين.